نحو تأسيس جديد لمفهوم النجاح مساهمة في بناء جيل جديد يحمل ثقافة " نحن"

الأستاذ لحسن اوتسلمت
حيثما وليت وجهك لا تجد إلا حديثا متضخما عن النجاح بصيغة الأنا وضمير المتكلم وصيغة المفرد (إذا كنت تريد النجاح… لا تقف وتتأمل الدرج، .. أسرع وابدأ في الصعود… ، النجاح هو تحقيق أحلامك …هو استغلالك الأمثل لطاقاتك، قد تتعثر أحيانا… وتسقط أحيانا أخرى… انهض وواصل الطريق … لكي تصل إلى أهدافك ـ لاحظ أهدافك لا أهداف الفريق ـ في النهاية سوف تصل… إلى القمة). دورات تدريبية ومؤلفات صممت و كتبت في مجال التنمية الذاتية جعلت الفرد محور الاهتمام والاشتغال. داعية إياه إلى التخلص من إحباطاته السلبية وتحميله مسؤولية مصيره و نجاحه، واضعة بين يديه عشرات الأفكار والإجراءات والتقنيات المستلهمة من تجارب شخصيات تمكنت من تحقيق ذاتها في بيئة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية غربية قائمة أساسا على فلسفة فردانية تتمحور حول الفرد . بيئة تتحمل هذا النموذج وتستجيب له بشكل طبيعي ، وتنسجم معه وتقلص مفعولاته السلبية بحكم وجود وعي حقوقي وثقافة العمل الجماعي والعمل المؤسسي حيث يشتغلون على الفرد وذات الفرد وتطوير الفرد وبناء ثقة الفرد بنفسه ، وتدعيم استقلالية الفرد ليعيش فردانيته بالشكل الذي يريد لكن بشرط ألا يمس فردانية الآخرين وأن يساهم في البناء الجماعي والتنظيمي والمؤسسي. وهو يساهم في هذا البناء المشترك دون أن يذوب في المجموع أو يفقد استقلاليته. إن الأنا هي محور اهتمام التنمية الذاتية وفق الفلسفة الأمريكية المؤسسة على الفردانية.
غير أن الخطأ الأكبر في اعتقادي الذي وقع فيه عدد من المدربين العرب -خاصة الجيل الأول والثاني – رغم إسهاماتهم الرائدة في هذا المجال وفضلهم لا ينكره إلا جاحد، هو دبلجة آلية لنماذج وأدوات المدرسة الأمريكية في التنمية الذاتية المتمركزة حول الفرد دون وعي بخلفياتها الفلسفية والثقافية. حتى إن بعض الجهود التي حاولت أن تخفي فخ الدبلجة الآلية وقعت في منزلق منهجي آخر وهي موضة التأصيل والتبيئة ، حيث أضنت جهودها في البحث داخل الثقافة الإسلامية عن آيات قرآنية و أحاديث نبوية وتجارب إسلامية تسند تلك البرامج والأدوات دون أن تكلف نفسها عناء الإبداع والتأصيل المفاهيمي وفق سياقنا التداولي . فضلا عن ذلك وبسبب وقوعها تحت تأثير مفعول النقل الآلي لأدوات وبرامج النموذج الأمريكي، صمم عدد من المدربين العرب برامج تدريبية قائمة على استراتيجيات الوصفات الجاهزة والتحفيز السريع، برامج تدعوك إلى الحلم وحدك وأن تنشغل بمفردك بأزماتك وإحباطاتك ، وإذا أردت أن تنجح فما عليك إلا أن تطبق قوانين الجذب فهي قادرة على أن تزودك بأجنحة طائرة للوصول إلى مغارة علي بابا والاستيلاء على ما فيها من كنوز ! . وعندما يحضر الغير في هذه البرامج فإن الاهتمام به لا يعدو أن يكون سوى وسيلة لاستغلال وقته وعمله وماله.
إن حاجتنا ملحة ومصيرية إلى تأسيس مفهوم جديد للنجاح ، يستفيد من تراكمات التجربة الغربية الأمريكية في مجال التنمية الذاتية ، وتجاوز أوجه القصور في التجربة الحالية ، رهان الاستفادة والتجاوز والإبداع ، يقتضي الوعي أولا بشروط التأسيس والصناعة، وعي جديد يتأسس على إدراك مراتب الترجمة وهي ثلاثة مراتب أوردها الفيلسوف المجدد الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه ” فقه الفلسفة : القول الفلسفي ، كتاب مفهوم التأثيل ” : أولاها ، الترجمة التحصيلية ، التي تتمسك بحرفية النص ، والثانية ، الترجمة التوصيلية : وهي تتمسك بحرفية المضمون من دون حرفية اللفظ ،أما الثالثة ، فهي الترجمة التأصيلية ، وهي تتصرف في المضمون كما تتصرف في اللفظ ، ومن فوائدها أنها تُقْدِرُ المتعاطي لها على التفاعل مع المنقول بما يزيد في توسيع آفاقه ويُزَوِّدُه بأسباب الاستقلال في فكره (ص19). إن الغرض الجوهري الذي ينبغي أن يوجه فعل الترجمة لبرامج التنمية الذاتية ومن ضمنها مفهوم النجاح هو خرقُ حجاب آفة التقليد لأن الانفتاح شيء والنقل الآلي شيء آخر. لأنه من غير المعقول أن نستنهض همم أمتنا وفق فلسفة غيرها وحاجاته وأهدافه.
هذه الدعوة إلى تأسيس جديد لمفهوم النجاح، تنطلق من تفكير نقدي وتأمل ذاتي وتجربة متواضعة ، استنتجت على إثرها خلاصات تؤكد افتقارنا اليوم إلى الحس الجمعي في الطموح نحو النجاح، ويغلب على أكثرنا التفكير في النجاح الفردي ، وأحيانا ولو على حساب الغير . في تقديري لقد آن وقت إحداث تغيير جذري في تناولنا لمفهوم النجاح ، وذلك بالتخلص من ثقافة جيل ” أنا ” وبناء جيل جديد يحمل ثقافة ” نحن” ، جيل جديد يؤمن قولا وفعلا بمبدأ ” أنا أنجح ، أنت تنجح ، نحن ننجح “. إن تراثنا التربوي والعلمي غني بمساهمات نوعية في مجال تطوير الذات الفردية والجماعية في كل أبعادها وبشكل متوازن وفعال . إن النجاح الأهم هو النجاح الجماعي، فلا يكفي في ثقافة النجاح المُستَلْهمة والمُسْترشدة بهدي الرؤية القرآنية، أن يكون المرء ناجحا بل عليه أن يساهم في نجاح المجتمع معه. هذه الثقافة الجديدة هي التي ستحدث قطيعة مع إحباطاتنا الفردية والجماعية السابقة ، ثقافة ستدفع المجتمع للارتقاء الحضاري، وبناء الصرح المجتمعي الرصين. ثقافة تعيد بناء الإنسان وتحرر قدراته وتمكنه من آليات إحداث تغيير في أنماط تفكيره وأدائه (التمكين الذاتي ) وتفتح للإنسان أبعادا جديدة وهو متسلح بالمهارات اللازمة التي من شأنها أن تساعده على إحداث التغيير على مستوى الجماعة ( التمكين الاجتماعي ) .
هذه إذن هي أركان تأسيس جديد لمفهوم النجاح، وفي الآن ذاته إبداع تأصيلي جديد لعلوم التنمية الذاتية ، تناسب سياقنا التداولي ،مع الانفتاح على مكتسبات العلم والتجربة الانسانيتين.
الأستاذ لحسن اوتسلمت
مقال منشور في مجلة نجاحنا
الصادرة عن مركز النجاح والتنمية المغرب
العدد 01: يوليوز 2016